غزة أونلاين – غزة
في أقصى شرق مدينة بيت حانون، الأجواء مجنونة؛ أمطار غزيرة مصحوبة بلمعان البرق ثم يلحقه صوت رعد أقوى من أصوات قنابل إسرائيل في الحرب الأخيرة؛ الرياح تكاد تعيق طريق مسارك؛ تحاول أن تجد مكانا لتنجو أنت وملابسك من الماء، تهرول من هنا وهناك لتختبئ، لكن الأرض واسعة خالية، فقط بضع كرفانات مرصوصة في المنتصف يسكنها المدمرة منازلهم في حرب 2014.
على بوابة إحدى “الكرفانات”، يقف طفلا ضئيل الجسد يحرك بيديه بإشارات القدوم يطلب أن يحتمى بكرفان والده الذي استلمه عوضا عن منزلهم الذي دمرته إسرائيل.
التيار الكهربائي مقطوع كالعادة، أم في بداية الثلاثينات، تحتضن رضيعا، وحولها طفلين أعمارهم متقاربة، وفتاة تجلس بجانبها، أما الوالد كان يضرب النار الموقدة بقضيب حديدي يحاول ترويضها، والطفل الذي نادى علينا ويدعى ياسر الشنباري، كان يطرد الماء التي اقتحمت مدخل الكرفان.
هدأت النار، فيما بقيت الأمطار تضرب سقف الكرفان الأبيض بقوة؛ كانت الأجواء بالداخل قليلة الدفء مخيفة نوعا ما، ولكن حوار الأم مع أطفالها وحديثنا مع الوالد خفف حدة الأجواء.
“أجساد أطفالي لا تحتمل البرد القارس في الأيام الطبيعية، فما بالكم في هذا الشتاء المجنون المصحوب بمنخفضات متقطعة”، يتحدث الوالد أبو ياسر واخزا النار في ذاك القضيب الحديدي.
أبو ياسر الأربعيني وزوجته منذ دخول فصل الشتاء، لم يذوقوا طعما للنوم، ففي كل منخفض مصحوب بالأمطار الغزيرة، يتبادلون الأدوار، حتى يطردوا الماء المتسلل من ألواح “الزينقو” إلى أجساد أطفالهم.
الأم تبقى مستيقظة لحين منتصف الليل، تخلد إلى النوم بنصف عين تراقب أطفالها وزوجها، الذي يبقى طوال الليل يبعد الماء ويغلق تلك النافذة بقطعة قماش صغيرة لطرد البرد أيضا.
دون مقدمات تتحدث والدة ياسر :” العيشة في الكرفان لا يتحملها الأدمي، ما بالكم في هذه الأجواء المميتة”. حاولنا الحديث مع طفليها إياد ومحمد عن حياتهم هنا، وعن الغرفة الملونة التي كانا يقطنان فيها في منزلهم الذي أصبح كومة رماد، غير أن التهاب رئتيهم نتيجة البرد منعمها من الإجابة، فقط إياد حاول الحديث، لكن سعاله الشديد لم يدع لنا فهم ماذا يقول.
بضجر يقول أبو ياسر المتعطل عن العمل حديثا :” كل يوم إلي ابن مريض، أتوقع أن يموت لي أحد الأطفال في هذه الفصل”.
ترد عليه ابنته البكر :” يابا احنا نموت عشرات المرات في اليوم الواحد!”. توقف هطول المطر، وانزاحت تلك الغيمة، استغلينا تلك الفرصة، للخروج، وإكمال الجولة على سكان الكرفانات الذين يذوقون العلقم منتظرين أي حركة من عجلة الإعمار.
طرحنا سلام الرحيل عليهم، وهممنا بالخروج، حاملين معنا عبارة الفتاة : ” نحن نموت عشرات المرات في اليوم الواحد!”. قضية الكرفانات باتت المأوى المؤقت للمتضررين بانتظار الحل النهائي، لكّن معاناة هؤلاء زادت مع ضعف تلك البيوت الحديدة “الهشة”.
وكان وزير الأشغال العامة والاسكان الدكتور مفيد الحساينة قد أعلن في أبريل الماضي عن تجهيز 26 فرقة لحصر الأضرار لبدء اعادة اعمارها، منوهاً إلى أن هذه اللجان ستنتهي خلال شهرين منذ ذلك الوقت.
يذكر أن نصيب شمال القطاع كان في ثماني لجان بحسب تصريحات الحساينة، ما أنكره بعض سكان الكرافانات بعدم وصول أي لجان لهم بعد استلامهم الكرافانات.
بعد قطعك عشرات الأميال وانت تطل من نافذة المركبة على المنازل المدمرة والمشيدة وكيف يكسوها الماء وكيف يغرق بعضها، تصل من جهة الشرق من محافظة خانيونس وتحديدا منطقة خزاعة حيث جرح الذي خلفه العدوان أقسى من هذا البرد.
في كرفان يأوي أربعة شبان من ذوي الاحتياجات الخاصة تأويهم سيدة انتهت عقدها الخامس حديثا وتدعى أم فراس، بعد ما علمت بما هو قادم من أجواء مرهقة، تحسبنت ثم اختصرت حديثها :” لا أعلم كيف سأتعامل مع هؤلاء الأربعة في الأيام المقبلة”.
وتعرض كرفان السيدة ام فراس إلى الغرق في العام الماضي، مما أدى إلى نقل أولادها الأربعة إلى المشفى بعد سيطرة البرد على أجسادهم المريضة.
حكاية السيدة والدة هؤلاء الشبان القصيرة من بين مئات القصص الملفوحة بالدم والبرد بالإضافة إلى التلكؤ في إعادة الإعمار.
على بوابة إحدى الكرفانات يصرخ أحد الشبان قمحي البشرة متسائلا: لم يعد أحد يسمع صوتنا، هل الجهات المعنية أصابها الصمم، أم حناجرنا قد تجمدت من البرد؟!”.
المصدر: تقرير خلص لوكالة سوا
Discussion about this post