غزة أونلاين – غزة – يحيى اليعقوبي
التاسع من تموز، يوم صعب عاشته “منطقة الشجاعية” بمدينة غزة، قصف و لهب و حمم طالت البشر و الشجر و الحجر، و في غمرة هذه الأجواء و الأحداث في يوم دراماتيكي كانت “منال قنديل” (40 عاما) تعيش لحظات صعبة و قاسية أيضا، فطفلها الذي احتضنته تسعة أشهر في رحمها على وشك إبصار الحياة، إذ باغتها ألم المخاض.
بدت أكثر سعادة لإستقبال الوافد الجديد في شهر رمضان؛ تسابق الزمن، لا تأبه بما يدور في الخارج، تنتظر ضمه بين ذراعيها، تتجول مع ألم المخاض بدون إدراك ذهابا و عودة في كل أرجاء المنزل، و كأنها تلقي نظرة أخيرة على البيت.
ما قبل الغياب
على عتبات باب المنزل، “اعتني بإخوتك سأغيب ليومين” .. قالتها منال لإبنتها الكبرى “حنين” (23 عاما) التي كانت حينها تبلغ عشرين عاما، و غادرت إلى المستشفى القريب من منزلها، في تلك التفاصيل، كانت المفاجأة أنها أُصيبت بنزيف شديد بعد الولادة، نقلت على إثرها لمستشفى الشفاء، تحت القصف، و أزيز الرصاص يصدح من حولها، لتفارق الحياة هناك.
كأنه حدسٌ داخلي، أفصحت الأم لحماتها بما تعانيه من تعب و ألم، و بشعورها بأنها سترحل عن الحياة، و بحب الأم لإبنتها، أوصتها بالاعتناء بطفلها في حال حدث أي مكروه معها.
أخبرت الأم ابنتها “حنين” أنها ستغيب ليومين، و لكنها غابت للأبد، في مشهد يصعب تخيله، يعود فيه إلى البيت المولود بلا أمه، ليكون بين ذراعي والده، و قد سُمي الرضيع “سالم” على اسم عمه الذي استشهد صباح العاشر من تموز، و ليس “أمير” كما كانت تود والدته تسميته.
في البداية، تحطمت قلوب إخوته على قارعة الألم، فكانوا لا يريدون رؤية الوافد الجديد، يشعرون أنه سبب رحيل أمهم عنهم، فتربى في بيت خاله، و هناك إعتنت به تلك العائلة كثيرا، و بعد فترة بسيطة طلبت الشقيقات الستة الذهاب إلى ذلك البيت ليقمن بتربيته، فتغير الوضع، و أسر هذا الصغير قلوب أخواته اللاتي تعلقن به، و هكذا أصبح بالنسبة لهم “الحياة” و وجوده يعني لهن الكثير، يتألمن عندما يمرض، و يتمنين أن “لو كان المرض من نصيبهن ليبتعد عن الصغير”.
مرت الأيام تلو الأيام، و كان “سالم” على موعد مع الحزن الذي لم يعد يجهله، لتصبح جدته أمه الثانية، رغم كبر سنها، نزلت من أعلى عتبات السنين و سحبها العمر مرة أخرى كي تربي طفلا صغيرا تعلق بها، يسأل عنها أينما تغيب عنه.
أما شقيقته الكبرى “حنين”، كانت كسفينة أُلقِيَت له على شواطئ الأمل الغائب، خلف أسوار الفراق؛ تتخطى الصعوبات في تربية طفل يعاني من حساسية شديدة في صدره، نتيجة ضعف المناعة، كانت مجرد طالبة جامعية، تجهل أصول التربية، لكن الظروف أجبرتها على تقمص دور الأم في الاعتناء، ليس بسالم فحسب بل بكل الإخوة، تذكر توصيات أمها لها قبل مغادرتها المنزل بالاعتناء بإخوتها.
تعبر حنين عن حبها لشقيقها الطفل و بشدة تعلقها به: “سالم شقي، وحركاته كثيرة، و كلامه ممتع، يثير إعجاب الآخرين، يخلق جوا رائعا في البيت، نفتقده كثيرا عندما يذهب إلى بيت عمي أو عمتي للعب مع أولادهم، هو نعمة من الله، و أعظم هدية تركتها لنا أمي بعد غيابها”.
لكن دور الأم هذا جعلها تبكي تارة وتفرح تارة أخرى، تبكي حينما يناديها أمي، ليذكرها كل يوم بذكريات أليمة، وتفرح كثيرا بكلامه وحركاته التي أسرت قلوب الأقرباء والمحبين، وتفرح كذلك عندما تجده يحسن التعرف على ملامح أمه من بين الكثير من الصور.
دور قبل الأوان
تعترف حنين لنا: “لم يكن لدي أدنى مسؤولية تجاه إخوتي في حياة أمي، و لكن بعد رحيلها قمت بدور الأم، إلى جانب دراستي الجامعية، فكانوا هم أول مسؤولياتي”، ما زالت تتحدث عن هذا الإختبار الجديد: “حاولت أن أقوم بكل ما بوسعي من تحضير دروسهم وإعداد الطعام، و شراء ملابس لهم، و الذهاب للطبيب عند مرض أحدهم، إلى جانب العناية و الإهتمام بأخي، بل هو ابني الذي لم أنجبه”.
ما زالت تفاصيل مشاهد الحرب في تلابيب ذاكرتها، توضح: “في أيام الحرب، ذهبت أنا وأبي و أخي إلى بيت عمتي القريب لمنزلنا، و لكن وأثناء عودتنا قصفت طائرات الاحتلال أراضي زراعية من حولنا، بسرعة حاولنا الركض نحو المنزل، لتجد والدتي تقف على باب البيت، والخوف يعتصر قلبها، بصوت خافت ممزوج بالاضطراب تسألهم: (هل أصابكم مكروه ما؟)”.
تحتسي حنين جرعة من الصمت، ثم تواصل: “كانت تخشى فقداننا، و لكنا نحن من فقدناها”.
فقد سالم حضن أمه وحنانها منذ ولادته، ليكون أكثر ما يؤلم إخوته أنها توفيت في يوم ميلاده، و عن ذلك تقول حنين: “كيف سيتقبل سالم أن أمه ماتت في هذا اليوم؟ هل سيكره يوم ميلاده عندما يكبر مثلما يكرهه بقيت إخوته؟ أيحتفلون بيوم ميلاده أم يحزنون على فراق ورحيل أمهم بعيدا عنهم؟!”.
الجميل في هذا الطفل، أنه حينما ينظر إلى صورة الأم المعلقة على حائط المنزل، ويبدأ النقاش مع كل ضيف يأتي إليهم حول الصورة ذاتها، فيخبرهم: “هذه ماما”، رغم أنه لم يرها، “وين ماما؟”.. أما هذا فتساؤل اختباري من الضيوف، ليكون الرد بجواب بريء من هذا الطفل الصغير: “هي عند الله في الجنة”.
هذه اللوحة لم تكتمل بعد، فما يزال “سالم” يدهش الكثيرين بأنه يستطيع تمييز صورة أمه وملامح وجهها، حاز على محبة واهتمام الجميع، يصفه المحيطون بحب بأنه: “كثير الكلام والأسئلة”، وهذا أحد أسباب الحب، حتى أصبحت شقيقاته الستة أمهات له من بعد رحيل أمهن.
ستكبر يا “سالم”، وسيخبرونك أن أمك كانت متشوقة لقدومك، تجهز لك ملابس جديدة وكأنك طفلها الأول، تريد أن تسميك “أمير”، سيفتقدها رمضان العائلة الذي تخلل يوم وفاتها وميلادك، ستفتقدها الموائد وستغيب نكهة طعامها، وسيفتقد أبناؤها نصائحها، وحديثها، وستذكرون توصياتها لهم بالاعتناء ببعضهم البعض وبالمحافظة على ترابط الأسرة والتنشئة السليمة.
المصدر : فلسطين أون لاين
Discussion about this post